الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (238): {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}{حافظوا عَلَى الصلوات} أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلالٍ بشيء منها كما تنبىء عنه صيغةُ المفاعلة المفيدة للمبالغة، ولعل الأمرَ بها في تضاعيف بيان أحكامِ الأزواج والأولاد قبل الإتمام للإيذان بأنها حقيقةٌ بكمال الاعتناءِ بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغالٍ بشأنهم وبشأن أنفسهم أيضاً كما يفصح عنه الأمر بها في حالة الخوف ولذلك أمر بها في خلال بيان ما يتعلق بهم من الأحكام الشرعية المتشابكةِ الآخذِ بعضُها بحُجْزَة بعض {حافظوا عَلَى} أي المتوسطة بينها أو الفُضلى منها وهي صلاةُ العصر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغَلونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر ملأ الله تعالى بيوتَهم ناراً» وقال عليه السلام: «إنها الصلاةُ التي شُغل عنها سليمانُ بنُ داود عليهما الصلاة والسلام» وفضلُها لكثرة اشتغال الناسِ في وقتها بتجارتهم ومكاسبهم واجتماعِ ملائكة الليل وملائكة النهار حينئذ، وقيل: هي صلاةُ الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشقَّ الصلواتِ عليهم لما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يصليها بالهاجرة فكانت أفضلَها لقوله عليه السلام: «أفضلُ العبادات أحمزُها» وقيل: هي صلاة الفجر لأنها بين صلاتي الليل والواقعةُ في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودةٌ كصلاة العصر وقيل: هي صلاةُ المغرب لأنها متوسطة من حيث العددُ ومن حيث الوقوعُ بين صلاتي النهار والليل ووتر النهار ولا تُنقص في السفر وقيل: هي صلاة العِشاء لأنها بين الجهريتين الواقعتين في طرفي الليل والنهار وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أنه عليه السلام كان يقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر فتكون حينئذ إحدى الأربعِ قد خُصت بالذكر مع العصر لانفرادها بالفضل وقرئ {وعلى الصلاة الوسطى} وقرئ بالنصب على المدح، وقرئ {الوسطى} {وَقُومُواْ لِلَّهِ} أي في الصلاة {قانتين} ذاكرين له تعالى في القيام لأن القنوتَ هو الذكر فيه وقيل: هو إكمالُ الطاعة وإتمامُها بغير إخلال بشيء من أركانها وقيل: خاشعين، وقال ابن المسيِّب: المراد به القنوتُ في الصبح..تفسير الآيات (239- 240): {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}{فَإِنْ خِفْتُمْ} أي من عدو أو غيرِه {فَرِجَالاً} جمع راجل كقيام وقائم أو رجل بمعنى راجل وقرئ بضم الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد أيضاً وقرئ {فرَجِلاً} أي راجلاً {أَوْ رُكْبَانًا} جمع راكب أي فصلوا راجلين أو راكبين حسبما يقتضيه الحالُ ولا تُخِلّوا بها ما أمكن الوقوفُ في الجملة وقد جوّز الشافعيُّ رحمه الله أداءها حال المسايفة أيضاً {فَإِذَا أَمِنتُمْ} بزوال الخوف {فاذكروا الله} أي فصلّوا صلاةَ الأمن وعبر عنها بالذكر لأنه معظمُ أركانِها {كَمَا عَلَّمَكُم} متعلق بمحذوف وقع وصفاً لمصدر محذوف أي ذكراً كائناً كما علمكم أي كتعليمه إياكم {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} من كيفية الصلاة، والمرادُ بالتشبيه أن تكون الصلاةُ المؤداة موافقةً لما علّمه الله تعالى، وإيرادُها بذلك العنوانِ لتذكير النعمةِ أو اشكُروا الله تعالى شكراً يوازي تعليمَه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والأحكامِ التي من جملتها كيفيةُ إقامةِ الصلاة حالتي الخوفِ والأمن. هذا وفي إيراد الشرطية الأولى بكلمة إن المفيدةِ لمشكوكية وقوعِ الخوفِ ونُدرته وتصديرِ الشرطيةِ الثانية بكلمة إذا المُنبئة عن تحقق وقوعِ الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى والإطنابِ في جواب الثانية المبنيّين على تنزيل مقامِ وقوعِ المأمور به فيهما منزلةَ مقامِ وقوعِ الأمر تنزيلاً مستدعياً لإجراءِ مقتضى المقام الأولِ في كل منهما مُجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة ولطفِ الاعتبار ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا} عَودٌ إلى بيانِ بقيةِ الأحكامِ المفصَّلة فيما سلف إثرَ بيانِ أحكامٍ توسطتْ بينهما لما أشير إليه من الحكمة الداعيةِ إلى ذلك {وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم} أي يوصون أو لِيُوصوا أو كتب الله عليهم وصيةً، ويؤيد هذا قراءةُ مَنْ قرأ كتب عليكم الوصية لأزواجكم وقرئ بالرفع على تقدير مضاف في المبتدأ أو الخبر أي حُكمُ الذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةٌ لأزواجهم، أو والذين يُتوفون أهل وصية لأزواجهم أو كُتِب عليهم وصيةٌ أو عليهم وصيةٌ وقرئ {متاع لاّزْوَاجِهِم} بدل وصية {متاعا إِلَى الحول} منصوبٌ بيوصون إن أضمَرْته وإلا فبالوصية أو بمتاع على القراءة الأخيرة {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} بدل منه أو مصدر مؤكد كما في قولك: هذا القولُ غيرُ ما تقول أو حال من أزواجهم أي غيرَ مُخرَجاتٍ والمعنى يجب على الذين يُتوفَّوْن أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يُمتّعْنَ بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى وكان ذلك أولَ الإسلام ثم نُسخت المدة بقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فإنه وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخرٌ في النزول وسقطت النفقة بتوريثها الربعَ أو الثمنَ وكذلك السكنى عندنا، وعند الشافعيّ هي باقية، {فَإِنْ خَرَجْنَ} عن منزل الأزواج باختيارهن {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأئمة {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} لا ينكِرُه الشرْعُ كالتزيُّن والتطيُّب وتركِ الحِدادِ والتعرّضِ للخُطّاب، وفيه دلالةٌ على أن المحظورَ إخراجُها عند إرادة القرارِ وملازمةِ مسكنِ الزوجِ والحداد من غير أن يجب عليها ذلك وأنها كانت مخيّرة بين الملازمة مع أخذ النفقةِ وبين الخروج مع تركها {والله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره يعاقِبُ من خالفه {حَكِيمٌ} يراعي في أحكامه مصالحَ عباده..تفسير الآيات (241- 243): {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}{وللمطلقات} سواءٌ كن مدخولاً بهن أو لا {متاع} أي مطلقُ المتعة الشاملة الواجبةِ والمستحبة وأوجبها سعيدُ بنُ جبير، وأبو العالية، والزُهري للكل وقيل: المراد بالمتاع نفقةُ العِدة وقيل: اللام للعهد والمراد غيرُ المدخول بهن والتكريرُ للتأكيد {بالمعروف} شرعاً وعادة {حَقّا عَلَى المتقين} أي مما ينبغي {كذلك} أي مثلَ ذلك البيانِ الواضح {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} الدالةَ على أحكامه التي شرعها لعباده {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها.{أَلَمْ تَرَ} تقريرٌ لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأربابِ الأخبار من شأنهم البديع فإن سماعَهم لها بمنزلة الرؤية النظريةِ أو العلمية أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب إيذاناً بأن قصتهم من الشهرة والشيوع بحيث يحِقُّ لكل أحد أن يُحمل على الإقرار برؤيتهم وسماع قصتهم ويعجب بها وإن لم يكن ممن رآهم أو سمع بقصتهم فإن هذا الكلامَ قد جرى مجرى المَثلِ في مقام التعجيب لما أنه شُبّه حالُ غيرِ الرائي لشيءٍ عجيب بحال الرائي له بناءً على ادعاء ظهورِ أمره وجلائِه بحيث استوى في إدراكه الشاهدُ والغائبُ ثم أُجريَ الكلامُ معه كما يجري مع الرائي قصداً إلى المبالغة في شهرته وعَراقتِه في التعجب، وتعديةُ الرؤيةِ بإلى في قوله تعالى: {إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} على تقدير كونِها بمعنى الأنصار باعتبار معنى النظر على تقدير كونِها إدراكاً قلبياً لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينتهِ علمُك إليهم {وَهُمْ أُلُوفٌ} أي ألوف كثيرة قيل: عشرةُ آلاف وقيل: ثلاثون وقيل: سبعون ألفاً، والجملةُ حال من فاعل خرَجوا وقوله عز وجل: {حَذَرَ الموت} مفعول له. رُوي أن أهلَ داوردان قرية قبل واسِط وقع فيهم الطاعونُ فخرجوا منها هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا ألا مفرَّ من حكم الله عز سلطانُه وقضاؤه، وقيل: مر عليهم حِزْقيلُ بعد زمان طويل وقد عرِيَتْ عظامُهم وتفرقت أوصالُهم فلوى شدقيه وأصابعَه تعجباً مما رأى من أمرهم فأُوحيَ إليه نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله فنادى فإذا هم قيام يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وقيل: هم قومٌ من بني إسرائيلَ دعاهم ملكُهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله تعالى ثمانية أيامٍ ثم أحياهم. وقوله عز وجل: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} إما عبارةٌ عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعةً، وإما تمثيلٌ لإماتته تعالى إياهم مِيتةَ نفسٍ واحدة في أقرب وقتٍ وأدناه وأسرعِ زمان وأوحاه بأمر آمرٍ مطاعٍ لمأمور مطيع كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} {ثُمَّ أحياهم} عطفٌ إما على مقدَّر يستدعيه المقامُ أي فماتوا ثم أحياهم وإنما حُذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلُّف مرادِه تعالى عن إرادته وإما على قال لما أنه عبارةٌ عن الإماته، وفيه تشجيعٌ للمسلمين على الجهاد والتعرُّضِ لأسباب الشهادةِ وأن الموتَ حيث لم يكن منه بدٌّ ولم ينفعْ منه المفرُّ فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} عظيمٍ {عَلَى الناس} قاطبةً، أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى، وأما الذين سمِعوا قِصتَهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبارِ والاستبصار {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون فضلَه كما ينبغي ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبارُ والاستبصارُ، وإظهارُ الناس في مقام الإضمار لمزيد التشنيع..تفسير الآيات (244- 245): {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} عطفٌ على مقدر يعيِّنه ما قبله كأنه قيل: فاشكروا فضلَه بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا في سبيله لما علمتم أن الفِرارَ لا يُنْجي من الحِمام وأن المقدرَ لا مردَّ له، فإن كان قد حان الأجلُ فموتٌ في سبيل الله عز وجل وإلا فنصرٌ عزيزٌ وثواب {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ} يسمع مَقالة السابقين والمتخلّفين {عَلِيمٌ} بما يُضمِرونه في أنفسهم وهو من وراء الجزاء خيراً أو شراً فسارعوا إلى الامتثال واحذروا المخالفة والمساهلة.{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} من استفهامية مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء وذا خبرُه، والموصولُ صفة له أو بدل منه، وإقراضُ الله تعالى مَثَلٌ لتقديم العمل العاجل طلباً للثواب الآجل، والمراد هاهنا إما الجهادُ الذي هو عبارةٌ عن بذل النفسِ والمالِ في سبيل الله عز وجل ابتغاءً لمرضاته وإما مطلقُ العملِ الصالحِ المنتظم له انتظاماً أولياً {قَرْضًا حَسَنًا} أي إقراضاً مقروناً بالإخلاص وطيبِ النفسِ أو مقرضاً حلالاً طيباً {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على المعنى فإنه في معنى أَيُقرِضُه وقرئ بالرفع أي يضاعفُ أجرَه وجزاءَه، جعل ذلك مضاعفةً له بناءً على ما بينهما من المناسبة بالسببية والمسبَّية ظاهراً، وصيغةُ المفاعلة للمبالغة وقرئ {فيُضْعِفُه} بالرفع بالنصب {أَضْعَافًا} جمعُ ضِعف، ونصبُه على أنه حال من الضمير المنصوب أو مفعولٌ بأن يُضمَّنَ المضاعفةُ معنى التصيير، أو مصدرٌ مؤكد على أن الضِعْفَ اسم للمصدر والجمع للتنوين {كَثِيرَةٍ} لا يعلم قدرَها إلا الله تعالى وقيل: الواحد بسبعمائة {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي يقتّر على بعض ويوسّع على بعض أو يقتِّر تارةً ويوسّع أخرى حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالح فلا تبخلوا عليه بما وسَّع عليكم كي لا يبدِّل أحوالَكم. ولعل تأخيرَ البسط عن القبض في الذكر للإيماء إلى أنه يعقُبه في الوجود تسليةً للفقراء وقرئ {يبصُط} بالصاد لمجاورة الطاء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازِيكم على ما قدّمتم من الأعمال خيراً وشراً..تفسير الآية رقم (246): {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}{أَلَمْ تَرَ} تقريرٌ وتعجيب كما سبق قُطع عنه للإيذان باستقلاله في التعجب مع أن له مزيدَ ارتباطٍ بما وُسِّط بينهما من الأمر بالقتال {إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ} الملأُ من القوم وجوهُهم وأشرافُهم وهم اسمٌ للجماعة لا واحدَ له من لفظه كالرهط والقوم، سْموا بذلك لما أنهم يملأوُن العيونَ مهابةً والمجالسَ بهاءً أو لأنهم مليئون بما يبتغى منهم، ومن تبعيضية و(من) في قوله تعالى: {مِن بَعْدِ موسى} ابتدائيةٌ وعاملُها مقدرٌ وقع حالاً من الملأ أي كائنين بعضَ بني إسرائيلَ من بعد وفاة موسى، ولا ضيرَ في اتحاد الحرفين لفظً عند اختلافهما معنى {إِذْ قَالُواْ} منصوبٌ بمُضمر يستدعيه المقامُ أي ألم ترَ إلى قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا: {لِنَبِىّ لَّهُمُ} هو يوشَعُ بنُ نونِ بنِ أفرائيم بن يوسف عليهما السلام وقيل: شمعون بنُ صعبة بنِ علقمة من ولد لاوي بنِ يعقوبَ عليهما السلام وقيل: أشمويلُ بنُ بالِ بنِ علقمة وهو بالعبرانية إسماعيل. قال مقاتل: هو من نسل هارونَ عليه السلام وقال مجاهد: أشمويلُ بنُ هلقايا {ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل فِي سَبِيلِ الله} أي أَنهِضْ للقتال معنا أميراً نُصدِرُ في تدبير أمرِ الحرب عن رأيه وقرئ {نقاتلُ} بالرفع على أنه حالٌ مقدرة أي ابعثه لنا مقدّرين القتالَ أو استئنافٌ مبني على السؤال وقرئ {يقاتلْ} بالياء مجزوماً ومرفوعاً على الجواب للأمر والوصف لملِكاً {قَالَ} استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قيل: فماذا قال لهم النبيُّ حينئذ؟ فقيل قال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا} فُصل بين عسى وخبرِه بالشرط للاعتناء به أي هل قاربتم ألا تقاتلوا كما أتوقعه منكم؟ والمرادُ تقريرُ أن المتوقَّعَ كائنٌ وإنما لم يُذكر في معرض الشرط ما التمسوه بأن قيل: هل عسَيتم إن بعثتُ لكم ملكاً إلخ مع أنه أظهر تعلقاً بكلامهم بل ذَكَر كتابةَ القتالِ عليهم للمبالغة في بيان تخلّفِهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضيةِ القتالِ عليهم بإيجاب الله تعالى فلأَن لا يقاتلوا عند عدم فرضيتِه أولى، ولأن إيراد ما ذكروه ربما يوهِمُ أن سبب تخلفِهم عن القتال هو المبعوث لا نفسُ القتال وقرئ {عسِيتم} بكسر السين وهي ضعيفة {قَالُواْ} استئناف كما سبق {وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل} أي أيُّ سبب لنا في ألا نقاتلَ {فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا} أي والحال أنه قد عَرَض لنا ما يوجب القتالَ إيجاباً قوياً من الإخراج عن الديار والأوطان والاغترابِ من الأهل والأولاد، وإفرادُ الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسبابِ القتال وذلك أن جالوت رأسَ العمالقةِ وملكهم وهو جبارٌ من أولاد عمليق بن عاد كان هو ومن معه من العمالقة يسكنون ساحلَ بحرِ الرومِ بين مصر وفلسطين وظهروا على بني إسرائيلَ وأخذوا ديارَهم وسبَوْا أولادهم وأسرُوا من أبناء ملوكهم أربعَمائة وأربعين نفساً وضربوا عليهم الجزيةَ وأخذوا توراتَهم {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} بعد سؤال النبيِّ عليه السلام ذلك وبعْثِ الملك {تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا وتخلفوا لكنْ لا في ابتداء الأمرِ بل بعدَ مشاهدةِ كثرةِ العدوِّ وشوكتِه كما سيجيء تفصيلُه وإنما ذكر هاهنا ما آل إليه أمرُهم إجمالاً إظهاراً لما بين قولِهم وفعلهم من التنافي والتبايُن {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} وهم الذين اكتفَوا بالغُرفة من النهر وجاوزوه وهم ثلثُمائةٍ وثلاثةَ عَشرَ بعدد أهل بدر {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وتركِ الجهاد وتنافي أقوالِهم وأفعالِهم والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ.
|